عند الظهور المقدس.. لماذا شعار "يا لثارات الحسين (عليه السلام)"؟
الكاتب: مجتبى السادة | المصدر: مجلة الإنتظار | |
عندما يظهر الإمام المهدي (عليه السلام) في اليوم الموعود، والذي يصادف يوم عاشوراء من ذلك العام، يرفع أصحابه شعار "يا لثارات الحسين"، ويهتفون بأعلى أصواتهم بهذا الشعار، كون هذا اليوم هو يوم مقتل جدّه الإمام الحسين (عليه السلام)، وهذا مــــا دلت عليه روايات الظهور.
إن ثورة سيد الشهداء (عليه السلام) وثورة الإمام المهدي (عليه السلام) منسجمتان معاً في الهدف، وقد كانت نهضة الحسين (عليه السلام) في حقيقتها من بعض مقدمات ثورة المهدي (عليه السلام) وإنجازاً ليومه الموعود، بصفتها جزءً من التخطيط الإلهي لإعداد الأمة لليوم المنتظر.. كما إن ثورة الإمام المهدي (عليه السلام) دفاع عن قضية الإمام الحسين (عليه السلام) وأخذ بثأره، كونها محققة للهدف الأساسي المشترك بينهما بتطبيق القسط والعدل، وإزالة الظلم والجور والانحراف والكفر.
من هنا كان انطلاق حركة الإمام المنتظر (عليه السلام) من زاوية "يا لثارات الحسين" انطلاقاً من نقطة قوة متسالم على صحتها ورجحانها، وان أهم مناسبة يمكن الحديث فيها عن الإمام الحسين (عليه السلام) وأهدافه، هو يوم ذكرى مقتله في العاشر من محرم الحرام، ومن هنا كان هذا التوقيت للظهور حكيماً وصحيحاً، بالإضافة إلى أن وجود الإمام الحسين (عليه السلام) كان ولا زال وسيبقى في ضمير الأمة خاصة والبشرية عامة حياً نابضاً، وعلى مختلف المستويات، يُلهم الأجيال روح الثورة والتضحية والإخلاص.
إذاً، شعار "يا لثارات الحسين" له من الدلالات الكبيرة والعظيمة، الموضحة لأهداف الإمام المهدي (عليه السلام) ورمز لمسيرته، ومن هنا لابد أن نعرف طبيعة الحركتين (الثورتين) وأهدافهما والرابط المشترك، علماً بأن المسيرتين من أجل الإسلام ورسالته السمحاء، ولكن قبل هذا وذاك لابد أن نعرف شيئاً يسيراً من مسيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في فتح مكة، وربطه بـ(الفتح الحسيني) و(الفتح المهدوي)، باعتبار أن هناك في التاريخ الإسلامي ثلاثة فتوحات رئيسية أثرت وحافظت على رسالة الإسلام:
الأول: الفتح المحمدي (فتح مكة)
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِينا﴾، فما هي العقبة الرئيسية التي واجهت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى تأخر فتح مكة مكان بعثته وانطلاق دعوته لسنوات عديدة؟ حتى أنّه سُمّي العام الذي فتحت به مكة بعام الفتح.
ولتوضيح المشكلة الحقيقة التي واجهت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى تأخر الفتح، لابد من الرجوع إلى عام الفيل (570 م)، العام الذي ولد فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، عندما أراد أبرهة ملك اليمن مهاجمة مكة المكرمة وتهديم بيت الله الحرام (الكعبة)، وعند اقتراب الجيش وفي مقدمته فيل، نزح سكان مكة (قريش) من منازلهم إلى الجبال المجاورة، وقال زعيمهم عبد المطلب مقولته المشهورة: "للبيت ربّ يحميه"، فأقام الله معجزته لحفظ الكعبة المشرفة، فأرسل طيراً أبابيل بحجارة من سجيل (أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة)، وهنا بدأت تتكون فكرة جديدة، وتترسخ في عقول الناس ملازمة فكرية بين قدسية بيت الله الحرام وسيادة قريش على مكة، ممّا شكل قوة أدبية ونفوذاً لقريش عند العرب، لأنهم جيران بيت الله الحرام وحماته وسدنته، ولأنهم يكرمون زوار هذا البيت.. ولذا اعتبر هذا النفوذ الأدبي لقريش أصعب ما واجهه (صلى الله عليه وآله وسلم) في بداية دعوته بمكة، ومع بقاء النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة من بداية دعوته ولمدة ثلاثة عشر عاماً، إلا أن الداخلين في الإسلام قليلون، ولم يكن ذلك بتقصير من أساليب الدعوة أو ضعفها، وإنّما بسبب الفكرة المرسخة في عقول الناس بين قدسية البيت الحرام وسيادة قريش، وهنا تنبع الحكمة النبوية بالهجرة إلى يثرب، وبمعرفة القائد العظيم لهذه الحقيقة لم يضع في صلح الحديبية مع قريش إلا مطلب واحد، وهو أن تُخلي قريش بينه وبين العرب، وأن تتوقف عن استغلال نفوذها الأدبي عند العرب لصدّهم عنه، وأن تتوقف عن دعاياتها الكاذبة ضده وضد دينه.. وبانتصار الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) على قريش وفتح مكة في العام الثامن للهجرة، سقطت أعتى الموانع وأقوى العقبات في طريق تقدم الدعوة الرسالية وانتشار الإسلام، وذلك اثر تفكك الملازمة الفكرية وسقوطها من أذهان الناس، ولذا بدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، من غير كثير مشقة أو عناء، ولذا أُطلق على العام الذي فتحت به مكة بعام الفتح، أو عام الوفود لكثرة توافد قبائل العرب على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لتعلن قبولها بولايته واعتناقها للإسلام، وأصبح النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) زعيماً لجزيرة العرب بلا منازع.
الثاني: الفتح الحسيني (عاشوراء)
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو القائد العام والرئيس الأعلى في الحكومة الإسلامية، وقد منحه الله في ذلك صلاحيات واسعة حتى يمكنه النهوض بهذه المسؤولية الكبرى.
قال الله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ (1)، وقال تعالى: ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ﴾ (2)، ومن هنا فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمثل السلطتين التشريعية والتنفيذية، فارتباطه بالسماء من خلال الوحي الذي يمثل المصدر التشريعي الوحيد، يجعله مسؤولاً عن إبلاغ الرسالة الإلهية، كما أن تصديه لقيادة الأمة الإسلامية يجعله المسؤول الأول عن تنفيذ الشريعة السمحاء.
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ﴾ (3)، ولذا لم تكن مهمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في إبلاغ الرسالة فقط، بل تتعدى ذلك إلى قيادة المسلمين وتنفيذ شرع الله في الأرض، وكان المسلمون ملزمون بطاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تعد طاعة لله سبحانه. قـــال تعــــالــى: ﴿يَـــا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ (4)، ومن هنا فطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واجبة، فبالإضافة إلى اتباعه في التشريع هناك طاعة أخرى متوجبة له كقائد وحاكم، وهي واجبة لأن الله أمر بذلك، ولذا تعتبر الحكومة الإسلامية من صميم الدين، وبوفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بدأت تتكون في عقول الناس وأذهانهم (ملازمة فكرية جديدة)، وهي: قدسية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعاليم الدين الإسلامي من جهة، وقدسية خليفة الرسول أو من يجلس على كرسي الحكم من جهة أخرى، فالأصل أن خليفة الرسول مهاب ومحترم وموقر، لأنه القائم مقام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بقيادة الأمة وحفظ الدين على أصوله الصحيحة، فهيبة الخليفة مستمدة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا بالنسبة للخليفة الشرعي المعيّن بأمر الله ورسوله، والأصل أن الخليفة هو الأعلم والافهم بالدين والأتقى والأصلح، وهو ولي أمر المسلمين، وهو مرجعهم الرسمي في أمور دينهم ودنياهم.. ولكن للأسف انتشرت تقليعة الغلبة واكتساب الخلافة عن طريق الغصب والقوة، وانتقلت مهابة الخليفة الشرعي للخليفة الغالب الذي لا سند لشرعية حكمه غير القوة، والقوة وحدها فقط! وبما أن الخليفة (الحاكم أو الأمير) هو خليفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد تمتع بكل الصلاحيات التي كان يتمتع بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأضيفت عليه القداسة التي كانت للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصفه خليفته، وأخذت هذه القداسة للخليفة الحاكم الغالب (غير الشرعي) شيئاً فشيئاً تترسخ في عقول الناس وأذهانهم، بل أصبحت التوجيهات والتعليمات الذي يصدرها الحاكم من صميم تعاليم الدين، ولها قدسية باعتباره خليفة الرسول، ومستمداً قدسيته من قدسية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى وإن كانت التعليمات التي يصدرها بعيدة كل البعد عن أحكام الدين الحنيف.. وهكذا أصبحت أوامر وتعليمات الحاكم الأموي مثلاً (معاوية ويزيد) ديناً أو من تعاليم الدين، وليست أفكاراً خارجية منحرفة، وهنا مكمن الخطر والكارثة التي واجهت الأمة، ولذا كان لابد من القيام بعمل جهادي يوضح الحقائق ويسقط (الملازمة الفكرية)، قدسية الحاكم وتعليمات الحاكم.
لقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) يدرك ويعي هذه الحقيقة، ويعلم بأن التاريخ ينتظر منه القيام بعمل لإعادة الأمور إلى نصابها، ومضى سيد الشهداء (عليه السلام) في طريقه إلى الهدف الأسمى والغاية القصوى، وهو يتمثل بقول القائل:
إن كان دين محمد لم يستقم * إلاّ بقتلي يا سُيوف خذيني
لقد وقف الحسين (صلوات الله عليه) وقفته الخالدة العظيمة، بعد أن أدرك أن الأخطار المحدقة برسالة جده لا يمكن تفاديها وتجاوزها إلا بشهادته، ولذا كان الحسين (عليه السلام) يجسد المسؤولية الشرعية والتاريخية الملقاة على عاتقه بقوله: «لم أخرج أشراً ولا بطراً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».
فالشعار والهدف التي انطلقت منها ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) هو الإصلاح في أمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي يتضمن إعادة الأمة إلى النهج الإسلامي الصحيح، ومن هنا نجد أن ثورة الحسين (عليه السلام) كانت طوفاناً في وجه هذا العدو الداخلي الخطير، الذي يهدد كيان الأمة ويحطم قوتها وينخر في جسدها من الداخل، باعتبار أن كيد الداخل أخطر من مؤامرات الخارج.
إن ثورة سيد الشهداء (عليه السلام) وذلك الفتح الحسيني كانت ثورة لتحرير الأمة، كما أنها ثورة قيم الدين، وتحمل في طياتها الفكر والضمير والوعي والمسؤولية التاريخية، ولذا لم يستطع أي حاكم بعد ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) أن يحتكر الفقه أو الفقاهة أو الثقافة أو الوحي أو القرآن وتفسيره، بل أصبح الحاكم (سلطة تنفيذية)، ووُضع حدٌّ فاصل بين السلطة التنفيذية (الحاكم، الملك، الخليفة، أمير المؤمنين، ولي الأمر، أو أي مسمى آخر كخليفة غير شرعي) وبين الأحكام الشرعية والتعاليم الإسلامية، ومن هنا تنبع عظمة نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، إذ أسقطت الملازمة الفكرية والذهنية المتمثلة بقدسية الدين الإسلامي وقدسية من يجلس على كرسي الحكم، باعتباره خليفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذا تلاحقت الثورات والحركات بعد نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) كالتوابيين والمختار الثقفي و... الخ، ولذا أفضل ما يطلق على نهضة أو حركة أو ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) بالفتح الحسيني.
الثالث: الفتح المهدوي (الظهور ـ عاشوراء)
شعار يا لثارات الحسين (عليه السلام) الذي سيرفع في بداية ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)، سيوضح الرابط المشترك بين أهدافه وأهداف ثورة سيد الشهداء (عليه السلام)، ألا وهو عودة الإسلام النقي الصافي الصحيح كما جاء به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا ما توضحه بعض الروايات الشريفة من استئناف الإسلام من جديد على يد الإمام المهدي (عليه السلام)، وهذا هو الرابط المشترك بين الفتح المهدوي والفتح الحسيني، وقبل ذلك الفتح المحمدي! ولذا يصح لنا أن نقول: هناك ثلاثة فتوحات حقيقة في التاريخ الإسلامي: المحمدي والحسيني والمهدوي، وهي في الأساس فتوحات فكرية عقلية، توضح الحقائق وتحقق أهداف الرسالة الإسلامية، وإن كان لها طابع عسكري أو سياسي.
المهمة المرادة من المهدي (عليه السلام) تنفيذها كبرى وعظيمة، فهو مكلّف بأن يقطف جهد كافة الأنبياء والرسل والأوصياء، وأن يحقق أهدافهم وما تطّلعوا إليه، وذلك بأن يهدي سكان الكرة الأرضية من مختلف الأديان والمذاهب إلى دين الله الحق كما جاء به النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومكلّف بأن يكوّن دولة عالمية تشمل كافة أقاليم الكرة الأرضية، وتضمّ كافة أبناء الجنس البشري المتواجدين على المعمورة، ومكلّف أيضاً بأن يجعل المنظومة الإلهية (أحكام الشريعة الإسلامية) قانوناً نافذاً في كافة أرجاء دولته العالمية، وأن ينشر العدل المطلق، ويحقق الكفاية والرخاء التام لكافة سكان المعمورة، وتلك أهداف ومهام لم يكلّف بها أحد قطّ قبل المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
سيواجه الإمام المنتظر (عليه السلام) في بداية ظهوره عقبات وصعوبات كثيرة وعديدة، سواء على صعيد العالم الإسلامي من تنوع المذاهب واختلاف الآراء، فعلى مدار أربعة عشر قرناً تداول المسلمون روايات سنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سيرة وحديثاً، ومع وجود المجمل والمبين والعام والخاص، إضافة إلى العوامل الخارجة المؤثرة من مكاسب سياسية ومصالح خاصة وتغليب الأهواء، اختلفت آراءُ العلماء، وبتحريض وتوجيه من القادة السياسيين اختلفت اجتهادات المجتهدين في ترجيح بعض الروايات على بعض، أو إسقاط بعض الأحاديث الشريفة أو تجاهلها، خاصة عندما تتعارض مع المصالح الخاصة أو السياسية العامة، بالإضافة إلى اجتهاداتهم الخاصة في مختلف معارف الإسلام واحكامه، فتعصب كلّ لآرائه، فتكونت لكل فرقة رؤية خاصة للإسلام، أوّلت بموجبها آيات متشابهات في كتاب الله الكريم، وحملت عليها آيات محكمات أخرى.. وهكذا انقسم المسلمون إلى فرق ومذاهب، ومضت عليهم قرون طويلة كفّرت خلالها بعض فرق المسلمين الفرق الأخرى، وأحلّت دماءهم وقتلت من خالفها في الرأي أحياناً وهدمت ديارهم.. فكيف يمكن للإمام المهدي (عليه السلام) توحيد كلمة المسلمين وتوجيهم لإتباع تعاليم الإسلام كما جاء به النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع وجود كل هذه المفارقات؟!
أما على صعيد غير المسلمين؛ فهم أكثرية والمسلمون أقلية، فمع تنوّع وتشتت الأديان والمذاهب، فهناك الأديان السماوية بمختلف مذاهبها وتقسيماتها، وهناك أديان غير سماوية، وهناك الإلحاد.. إضافة إلى الانحرافات الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية، والخواء الفكري والفراغ الروحي، إضافة إلى العقبات التي ستواجه الإمام (عليه السلام) سواء العسكرية منها أو الفنية، وعلى شتى المجالات والسبل (الفقر والمرض والقتل والدمار والفساد والجهل والظلم والاضطهاد والكفر والكوارث الطبيعية وكثرة الفتن والجوع وقلة الأمن والأمان والجور و...)، إضافة إلى الاصطدام مع مصالح الحكومات العالمية.
إذا خرج الإمام المهدي (عليه السلام) أعلن ثورة كبرى على الباطل بكل رموزه ومعانيه، وعلى الظلم بكل جبهاته الضالة، فيقوم (سلام الله عليه) بإنجاز أعمال لها طابع جذري وجوهري قوي وذات دلالات عظيمة، ليسقط بذلك الواقع المتخلف الذي يعيشه المسلمون وسكان العالم، والذي ترسخ في عقولهم وأذهانهم على طول التاريخ، وسيقوم بإنجاز أعمال لها ملامح فكرية وعقلية توضح الحقائق الأصيلة، وإن كان لها طابع عسكري وسياسي، ليسقط بذلك تراكمات وأفكار التاريخ المتخلف، وليزيل بذلك الملازمات الفكرية المترسخة في عقول الناس وأذهانهم، سواء على صعيد المسلمين أو على صعيد سكان العالم، فيحدث هزات عنيفة في عقول ونفسيات الناس، لتتوضح لهم الحقيقة ناصعة بعد أن ظلوا غافلين عنها طوال التاريخ، وحينها سينطلق فتحه بسهولة، وسيفرض نفوذه على العالم الإسلامي في مدة قياسية (ثمانية شهور كما توضح ذلك عدة روايات)، وسيفرض سيطرته على العالم بمساعدة السيد المسيح (عليه السلام) في وقت قصير، بناءً على المهمة الكبرى المنوط به تحقيقها بنشر القسط والعدل على كافة المعمورة.
خلاصة القول:
هناك في التاريخ الإسلامي ثلاثة فتوحات حقيقة: الفتح المحمدي والفتح الحسيني والفتح المهدوي مستقبلاً، وهي في الأساس فتوحات فكرية عقلية، توضح الحقائق وتزيل تراكمات التاريخ المتخلف وتحقق أهداف الرسالة الإسلامية، وإن كان لهذه الفتوحات طابع عسكري أو سياسي.
الفتح المحمدي: أزال بذلك الواقع المتخلف الذي ترسخ في عقول الناس لعشرات السنين، وهي الملازمة الفكرية المتمثلة بين قدسية بيت الله الحرام وسيادة قريش على مكة، مما شكّل لقريش نفوذاً أدبياً على العرب لم يستطع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تجاوزه إلا بعد فتح مكة، ومن ثم دخل الناس في دين الله أفواجاً.
الفتح الحسيني: أزال بذلك الواقع المتخلف الذي ترسخ في عقول الناس (المسلمين) لعشرات السنين، وهي الملازمة الفكرية المتمثلة بين قدسية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعاليمه وتوجيهاته المؤيدة بآيات من القرآن الكريم، وبين قدسية خليفة الرسول أو من يجلس على كرسي الحكم (الخليفة غير الشرعي)، فأصبحت التوجيهات والتعليمات التي يصدرها الحاكم (بنو أمية) من صميم تعاليم الدين ولها قدسية، وإن كانت في الحقيقة بعيدة كل البعد عن تعاليم الدين الإسلامي، وهنا تنبع عظمة نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) بثورته الخالدة في يوم عاشوراء لتوضيح الحقائق، ومن ثم بدأت الثورات والحركات الإسلامية تأتي تباعاً لمحاربة الظلم وإزالة القدسية عن الحكام المنحرفين.
الفتح المهدوي (مستقبلاً): سيزيل بذلك الواقع المتخلف الذي ترسخ في عقول الناس (المسلمين وغيرهم) لمئات السنين، سواء على الصعيد العقائدي كأديان ومذاهب أو على صعيد الظلم والجور والانحراف والباطل، ولذا سيقوم بإنجاز بعض الأعمال التي لها طابع جذري وجوهري، مما سيسبب هزة عنيفة في عقول ونفسيات الناس، ومن ثم سيسهّل له القيام بالمهمة الكبرى المنوط له تحقيقها بنشر الدين الإسلامي على كافة المعمورة، وبسط القسط والعدل وبمدة قياسية وبالأسباب الطبيعية.
بقلم: مجتبى السادة / السعودية ـ صفوى / صاحب كتاب: الفجر المقدس
__________
(1) الأحزاب: 6.
(2) المائدة: 48.
(3) النساء: 105.
(4) النساء: 59.
الكاتب: مجتبى السادة | المصدر: مجلة الإنتظار | |
عندما يظهر الإمام المهدي (عليه السلام) في اليوم الموعود، والذي يصادف يوم عاشوراء من ذلك العام، يرفع أصحابه شعار "يا لثارات الحسين"، ويهتفون بأعلى أصواتهم بهذا الشعار، كون هذا اليوم هو يوم مقتل جدّه الإمام الحسين (عليه السلام)، وهذا مــــا دلت عليه روايات الظهور.
إن ثورة سيد الشهداء (عليه السلام) وثورة الإمام المهدي (عليه السلام) منسجمتان معاً في الهدف، وقد كانت نهضة الحسين (عليه السلام) في حقيقتها من بعض مقدمات ثورة المهدي (عليه السلام) وإنجازاً ليومه الموعود، بصفتها جزءً من التخطيط الإلهي لإعداد الأمة لليوم المنتظر.. كما إن ثورة الإمام المهدي (عليه السلام) دفاع عن قضية الإمام الحسين (عليه السلام) وأخذ بثأره، كونها محققة للهدف الأساسي المشترك بينهما بتطبيق القسط والعدل، وإزالة الظلم والجور والانحراف والكفر.
من هنا كان انطلاق حركة الإمام المنتظر (عليه السلام) من زاوية "يا لثارات الحسين" انطلاقاً من نقطة قوة متسالم على صحتها ورجحانها، وان أهم مناسبة يمكن الحديث فيها عن الإمام الحسين (عليه السلام) وأهدافه، هو يوم ذكرى مقتله في العاشر من محرم الحرام، ومن هنا كان هذا التوقيت للظهور حكيماً وصحيحاً، بالإضافة إلى أن وجود الإمام الحسين (عليه السلام) كان ولا زال وسيبقى في ضمير الأمة خاصة والبشرية عامة حياً نابضاً، وعلى مختلف المستويات، يُلهم الأجيال روح الثورة والتضحية والإخلاص.
إذاً، شعار "يا لثارات الحسين" له من الدلالات الكبيرة والعظيمة، الموضحة لأهداف الإمام المهدي (عليه السلام) ورمز لمسيرته، ومن هنا لابد أن نعرف طبيعة الحركتين (الثورتين) وأهدافهما والرابط المشترك، علماً بأن المسيرتين من أجل الإسلام ورسالته السمحاء، ولكن قبل هذا وذاك لابد أن نعرف شيئاً يسيراً من مسيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في فتح مكة، وربطه بـ(الفتح الحسيني) و(الفتح المهدوي)، باعتبار أن هناك في التاريخ الإسلامي ثلاثة فتوحات رئيسية أثرت وحافظت على رسالة الإسلام:
الأول: الفتح المحمدي (فتح مكة)
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِينا﴾، فما هي العقبة الرئيسية التي واجهت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى تأخر فتح مكة مكان بعثته وانطلاق دعوته لسنوات عديدة؟ حتى أنّه سُمّي العام الذي فتحت به مكة بعام الفتح.
ولتوضيح المشكلة الحقيقة التي واجهت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى تأخر الفتح، لابد من الرجوع إلى عام الفيل (570 م)، العام الذي ولد فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، عندما أراد أبرهة ملك اليمن مهاجمة مكة المكرمة وتهديم بيت الله الحرام (الكعبة)، وعند اقتراب الجيش وفي مقدمته فيل، نزح سكان مكة (قريش) من منازلهم إلى الجبال المجاورة، وقال زعيمهم عبد المطلب مقولته المشهورة: "للبيت ربّ يحميه"، فأقام الله معجزته لحفظ الكعبة المشرفة، فأرسل طيراً أبابيل بحجارة من سجيل (أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة)، وهنا بدأت تتكون فكرة جديدة، وتترسخ في عقول الناس ملازمة فكرية بين قدسية بيت الله الحرام وسيادة قريش على مكة، ممّا شكل قوة أدبية ونفوذاً لقريش عند العرب، لأنهم جيران بيت الله الحرام وحماته وسدنته، ولأنهم يكرمون زوار هذا البيت.. ولذا اعتبر هذا النفوذ الأدبي لقريش أصعب ما واجهه (صلى الله عليه وآله وسلم) في بداية دعوته بمكة، ومع بقاء النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة من بداية دعوته ولمدة ثلاثة عشر عاماً، إلا أن الداخلين في الإسلام قليلون، ولم يكن ذلك بتقصير من أساليب الدعوة أو ضعفها، وإنّما بسبب الفكرة المرسخة في عقول الناس بين قدسية البيت الحرام وسيادة قريش، وهنا تنبع الحكمة النبوية بالهجرة إلى يثرب، وبمعرفة القائد العظيم لهذه الحقيقة لم يضع في صلح الحديبية مع قريش إلا مطلب واحد، وهو أن تُخلي قريش بينه وبين العرب، وأن تتوقف عن استغلال نفوذها الأدبي عند العرب لصدّهم عنه، وأن تتوقف عن دعاياتها الكاذبة ضده وضد دينه.. وبانتصار الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) على قريش وفتح مكة في العام الثامن للهجرة، سقطت أعتى الموانع وأقوى العقبات في طريق تقدم الدعوة الرسالية وانتشار الإسلام، وذلك اثر تفكك الملازمة الفكرية وسقوطها من أذهان الناس، ولذا بدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، من غير كثير مشقة أو عناء، ولذا أُطلق على العام الذي فتحت به مكة بعام الفتح، أو عام الوفود لكثرة توافد قبائل العرب على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لتعلن قبولها بولايته واعتناقها للإسلام، وأصبح النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) زعيماً لجزيرة العرب بلا منازع.
الثاني: الفتح الحسيني (عاشوراء)
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو القائد العام والرئيس الأعلى في الحكومة الإسلامية، وقد منحه الله في ذلك صلاحيات واسعة حتى يمكنه النهوض بهذه المسؤولية الكبرى.
قال الله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ (1)، وقال تعالى: ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ﴾ (2)، ومن هنا فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمثل السلطتين التشريعية والتنفيذية، فارتباطه بالسماء من خلال الوحي الذي يمثل المصدر التشريعي الوحيد، يجعله مسؤولاً عن إبلاغ الرسالة الإلهية، كما أن تصديه لقيادة الأمة الإسلامية يجعله المسؤول الأول عن تنفيذ الشريعة السمحاء.
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ﴾ (3)، ولذا لم تكن مهمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في إبلاغ الرسالة فقط، بل تتعدى ذلك إلى قيادة المسلمين وتنفيذ شرع الله في الأرض، وكان المسلمون ملزمون بطاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تعد طاعة لله سبحانه. قـــال تعــــالــى: ﴿يَـــا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ (4)، ومن هنا فطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واجبة، فبالإضافة إلى اتباعه في التشريع هناك طاعة أخرى متوجبة له كقائد وحاكم، وهي واجبة لأن الله أمر بذلك، ولذا تعتبر الحكومة الإسلامية من صميم الدين، وبوفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بدأت تتكون في عقول الناس وأذهانهم (ملازمة فكرية جديدة)، وهي: قدسية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعاليم الدين الإسلامي من جهة، وقدسية خليفة الرسول أو من يجلس على كرسي الحكم من جهة أخرى، فالأصل أن خليفة الرسول مهاب ومحترم وموقر، لأنه القائم مقام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بقيادة الأمة وحفظ الدين على أصوله الصحيحة، فهيبة الخليفة مستمدة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا بالنسبة للخليفة الشرعي المعيّن بأمر الله ورسوله، والأصل أن الخليفة هو الأعلم والافهم بالدين والأتقى والأصلح، وهو ولي أمر المسلمين، وهو مرجعهم الرسمي في أمور دينهم ودنياهم.. ولكن للأسف انتشرت تقليعة الغلبة واكتساب الخلافة عن طريق الغصب والقوة، وانتقلت مهابة الخليفة الشرعي للخليفة الغالب الذي لا سند لشرعية حكمه غير القوة، والقوة وحدها فقط! وبما أن الخليفة (الحاكم أو الأمير) هو خليفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد تمتع بكل الصلاحيات التي كان يتمتع بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأضيفت عليه القداسة التي كانت للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصفه خليفته، وأخذت هذه القداسة للخليفة الحاكم الغالب (غير الشرعي) شيئاً فشيئاً تترسخ في عقول الناس وأذهانهم، بل أصبحت التوجيهات والتعليمات الذي يصدرها الحاكم من صميم تعاليم الدين، ولها قدسية باعتباره خليفة الرسول، ومستمداً قدسيته من قدسية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى وإن كانت التعليمات التي يصدرها بعيدة كل البعد عن أحكام الدين الحنيف.. وهكذا أصبحت أوامر وتعليمات الحاكم الأموي مثلاً (معاوية ويزيد) ديناً أو من تعاليم الدين، وليست أفكاراً خارجية منحرفة، وهنا مكمن الخطر والكارثة التي واجهت الأمة، ولذا كان لابد من القيام بعمل جهادي يوضح الحقائق ويسقط (الملازمة الفكرية)، قدسية الحاكم وتعليمات الحاكم.
لقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) يدرك ويعي هذه الحقيقة، ويعلم بأن التاريخ ينتظر منه القيام بعمل لإعادة الأمور إلى نصابها، ومضى سيد الشهداء (عليه السلام) في طريقه إلى الهدف الأسمى والغاية القصوى، وهو يتمثل بقول القائل:
إن كان دين محمد لم يستقم * إلاّ بقتلي يا سُيوف خذيني
لقد وقف الحسين (صلوات الله عليه) وقفته الخالدة العظيمة، بعد أن أدرك أن الأخطار المحدقة برسالة جده لا يمكن تفاديها وتجاوزها إلا بشهادته، ولذا كان الحسين (عليه السلام) يجسد المسؤولية الشرعية والتاريخية الملقاة على عاتقه بقوله: «لم أخرج أشراً ولا بطراً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».
فالشعار والهدف التي انطلقت منها ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) هو الإصلاح في أمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي يتضمن إعادة الأمة إلى النهج الإسلامي الصحيح، ومن هنا نجد أن ثورة الحسين (عليه السلام) كانت طوفاناً في وجه هذا العدو الداخلي الخطير، الذي يهدد كيان الأمة ويحطم قوتها وينخر في جسدها من الداخل، باعتبار أن كيد الداخل أخطر من مؤامرات الخارج.
إن ثورة سيد الشهداء (عليه السلام) وذلك الفتح الحسيني كانت ثورة لتحرير الأمة، كما أنها ثورة قيم الدين، وتحمل في طياتها الفكر والضمير والوعي والمسؤولية التاريخية، ولذا لم يستطع أي حاكم بعد ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) أن يحتكر الفقه أو الفقاهة أو الثقافة أو الوحي أو القرآن وتفسيره، بل أصبح الحاكم (سلطة تنفيذية)، ووُضع حدٌّ فاصل بين السلطة التنفيذية (الحاكم، الملك، الخليفة، أمير المؤمنين، ولي الأمر، أو أي مسمى آخر كخليفة غير شرعي) وبين الأحكام الشرعية والتعاليم الإسلامية، ومن هنا تنبع عظمة نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، إذ أسقطت الملازمة الفكرية والذهنية المتمثلة بقدسية الدين الإسلامي وقدسية من يجلس على كرسي الحكم، باعتباره خليفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذا تلاحقت الثورات والحركات بعد نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) كالتوابيين والمختار الثقفي و... الخ، ولذا أفضل ما يطلق على نهضة أو حركة أو ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) بالفتح الحسيني.
الثالث: الفتح المهدوي (الظهور ـ عاشوراء)
شعار يا لثارات الحسين (عليه السلام) الذي سيرفع في بداية ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)، سيوضح الرابط المشترك بين أهدافه وأهداف ثورة سيد الشهداء (عليه السلام)، ألا وهو عودة الإسلام النقي الصافي الصحيح كما جاء به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا ما توضحه بعض الروايات الشريفة من استئناف الإسلام من جديد على يد الإمام المهدي (عليه السلام)، وهذا هو الرابط المشترك بين الفتح المهدوي والفتح الحسيني، وقبل ذلك الفتح المحمدي! ولذا يصح لنا أن نقول: هناك ثلاثة فتوحات حقيقة في التاريخ الإسلامي: المحمدي والحسيني والمهدوي، وهي في الأساس فتوحات فكرية عقلية، توضح الحقائق وتحقق أهداف الرسالة الإسلامية، وإن كان لها طابع عسكري أو سياسي.
المهمة المرادة من المهدي (عليه السلام) تنفيذها كبرى وعظيمة، فهو مكلّف بأن يقطف جهد كافة الأنبياء والرسل والأوصياء، وأن يحقق أهدافهم وما تطّلعوا إليه، وذلك بأن يهدي سكان الكرة الأرضية من مختلف الأديان والمذاهب إلى دين الله الحق كما جاء به النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومكلّف بأن يكوّن دولة عالمية تشمل كافة أقاليم الكرة الأرضية، وتضمّ كافة أبناء الجنس البشري المتواجدين على المعمورة، ومكلّف أيضاً بأن يجعل المنظومة الإلهية (أحكام الشريعة الإسلامية) قانوناً نافذاً في كافة أرجاء دولته العالمية، وأن ينشر العدل المطلق، ويحقق الكفاية والرخاء التام لكافة سكان المعمورة، وتلك أهداف ومهام لم يكلّف بها أحد قطّ قبل المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
سيواجه الإمام المنتظر (عليه السلام) في بداية ظهوره عقبات وصعوبات كثيرة وعديدة، سواء على صعيد العالم الإسلامي من تنوع المذاهب واختلاف الآراء، فعلى مدار أربعة عشر قرناً تداول المسلمون روايات سنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سيرة وحديثاً، ومع وجود المجمل والمبين والعام والخاص، إضافة إلى العوامل الخارجة المؤثرة من مكاسب سياسية ومصالح خاصة وتغليب الأهواء، اختلفت آراءُ العلماء، وبتحريض وتوجيه من القادة السياسيين اختلفت اجتهادات المجتهدين في ترجيح بعض الروايات على بعض، أو إسقاط بعض الأحاديث الشريفة أو تجاهلها، خاصة عندما تتعارض مع المصالح الخاصة أو السياسية العامة، بالإضافة إلى اجتهاداتهم الخاصة في مختلف معارف الإسلام واحكامه، فتعصب كلّ لآرائه، فتكونت لكل فرقة رؤية خاصة للإسلام، أوّلت بموجبها آيات متشابهات في كتاب الله الكريم، وحملت عليها آيات محكمات أخرى.. وهكذا انقسم المسلمون إلى فرق ومذاهب، ومضت عليهم قرون طويلة كفّرت خلالها بعض فرق المسلمين الفرق الأخرى، وأحلّت دماءهم وقتلت من خالفها في الرأي أحياناً وهدمت ديارهم.. فكيف يمكن للإمام المهدي (عليه السلام) توحيد كلمة المسلمين وتوجيهم لإتباع تعاليم الإسلام كما جاء به النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع وجود كل هذه المفارقات؟!
أما على صعيد غير المسلمين؛ فهم أكثرية والمسلمون أقلية، فمع تنوّع وتشتت الأديان والمذاهب، فهناك الأديان السماوية بمختلف مذاهبها وتقسيماتها، وهناك أديان غير سماوية، وهناك الإلحاد.. إضافة إلى الانحرافات الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية، والخواء الفكري والفراغ الروحي، إضافة إلى العقبات التي ستواجه الإمام (عليه السلام) سواء العسكرية منها أو الفنية، وعلى شتى المجالات والسبل (الفقر والمرض والقتل والدمار والفساد والجهل والظلم والاضطهاد والكفر والكوارث الطبيعية وكثرة الفتن والجوع وقلة الأمن والأمان والجور و...)، إضافة إلى الاصطدام مع مصالح الحكومات العالمية.
إذا خرج الإمام المهدي (عليه السلام) أعلن ثورة كبرى على الباطل بكل رموزه ومعانيه، وعلى الظلم بكل جبهاته الضالة، فيقوم (سلام الله عليه) بإنجاز أعمال لها طابع جذري وجوهري قوي وذات دلالات عظيمة، ليسقط بذلك الواقع المتخلف الذي يعيشه المسلمون وسكان العالم، والذي ترسخ في عقولهم وأذهانهم على طول التاريخ، وسيقوم بإنجاز أعمال لها ملامح فكرية وعقلية توضح الحقائق الأصيلة، وإن كان لها طابع عسكري وسياسي، ليسقط بذلك تراكمات وأفكار التاريخ المتخلف، وليزيل بذلك الملازمات الفكرية المترسخة في عقول الناس وأذهانهم، سواء على صعيد المسلمين أو على صعيد سكان العالم، فيحدث هزات عنيفة في عقول ونفسيات الناس، لتتوضح لهم الحقيقة ناصعة بعد أن ظلوا غافلين عنها طوال التاريخ، وحينها سينطلق فتحه بسهولة، وسيفرض نفوذه على العالم الإسلامي في مدة قياسية (ثمانية شهور كما توضح ذلك عدة روايات)، وسيفرض سيطرته على العالم بمساعدة السيد المسيح (عليه السلام) في وقت قصير، بناءً على المهمة الكبرى المنوط به تحقيقها بنشر القسط والعدل على كافة المعمورة.
خلاصة القول:
هناك في التاريخ الإسلامي ثلاثة فتوحات حقيقة: الفتح المحمدي والفتح الحسيني والفتح المهدوي مستقبلاً، وهي في الأساس فتوحات فكرية عقلية، توضح الحقائق وتزيل تراكمات التاريخ المتخلف وتحقق أهداف الرسالة الإسلامية، وإن كان لهذه الفتوحات طابع عسكري أو سياسي.
الفتح المحمدي: أزال بذلك الواقع المتخلف الذي ترسخ في عقول الناس لعشرات السنين، وهي الملازمة الفكرية المتمثلة بين قدسية بيت الله الحرام وسيادة قريش على مكة، مما شكّل لقريش نفوذاً أدبياً على العرب لم يستطع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تجاوزه إلا بعد فتح مكة، ومن ثم دخل الناس في دين الله أفواجاً.
الفتح الحسيني: أزال بذلك الواقع المتخلف الذي ترسخ في عقول الناس (المسلمين) لعشرات السنين، وهي الملازمة الفكرية المتمثلة بين قدسية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعاليمه وتوجيهاته المؤيدة بآيات من القرآن الكريم، وبين قدسية خليفة الرسول أو من يجلس على كرسي الحكم (الخليفة غير الشرعي)، فأصبحت التوجيهات والتعليمات التي يصدرها الحاكم (بنو أمية) من صميم تعاليم الدين ولها قدسية، وإن كانت في الحقيقة بعيدة كل البعد عن تعاليم الدين الإسلامي، وهنا تنبع عظمة نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) بثورته الخالدة في يوم عاشوراء لتوضيح الحقائق، ومن ثم بدأت الثورات والحركات الإسلامية تأتي تباعاً لمحاربة الظلم وإزالة القدسية عن الحكام المنحرفين.
الفتح المهدوي (مستقبلاً): سيزيل بذلك الواقع المتخلف الذي ترسخ في عقول الناس (المسلمين وغيرهم) لمئات السنين، سواء على الصعيد العقائدي كأديان ومذاهب أو على صعيد الظلم والجور والانحراف والباطل، ولذا سيقوم بإنجاز بعض الأعمال التي لها طابع جذري وجوهري، مما سيسبب هزة عنيفة في عقول ونفسيات الناس، ومن ثم سيسهّل له القيام بالمهمة الكبرى المنوط له تحقيقها بنشر الدين الإسلامي على كافة المعمورة، وبسط القسط والعدل وبمدة قياسية وبالأسباب الطبيعية.
بقلم: مجتبى السادة / السعودية ـ صفوى / صاحب كتاب: الفجر المقدس
__________
(1) الأحزاب: 6.
(2) المائدة: 48.
(3) النساء: 105.
(4) النساء: 59.